السياق في دراسة المعنى
أ- التعريف
للسياق:
السياق: " بناء نصي كامل من
فقرات مترابطة، في علاقته بأي جزء من أجزائه أو تلك الأجزاء التي تسبق أو تتلو
مباشرة فقرة أو كلمة معينة. و دائماً ما يكون السياق مجموعة من الكلمات وثيق
الترابط بحيث يلقي ضوء لا على معاني الكلمات المفردة فحسب بل على معنى وغاية
الفقرة بأكملها ".
هذا التعريف يسمح لنا أن نقول أن
السياق هو جوهر المعنى المقصود في أي بناء نصي أو كلامي فهو لا يلقي الضوء على
الكلمة والجملة فقط وإنما على النص المكتوب والكلام المجمل من خلال علاقة المفردات
بعضها ببعض في أي سياق من السياقات المختلفة.
ب- أنماط السياق:
تتطلب دراسة معاني الكلمات عند أصحاب نظرية السياق تحليلاً للسياقات
والمواقف التي ترد فيها، حتى ما كان منها غير لغوي (9). ولذلك اقترح K. Ammer تقسيماً للسياق
ذو أربع شعب. وهذا التقسيم الذي اقترحه هو كالآتي:
النمط الأول: السياق اللغوي linguistic context:
هو حصيلة استعمال الكلمة داخل نظام
الجملة، عندما تتساوق مع كلمات أخرى، مما يكسبها معنى خاصاً محدداً. فالمعنى في
السياق هو بخلاف المعنى الذي يقدمه المعجم، لأن هذا الأخير متعدد ومحتمل، في حين
أن المعنى الذي يقدّمه السياق اللغوي هو معنى معين له حدود واضحة وسمات محددة غير
قابلة للتعدد أو الاشتراك أو التعميم.
ü أمثلة على
السياق اللغوي:
عندما ترد كلمة ((عين)) في العربية –
وهي من المشترك اللفظي – في سياقات لغوية متعدِّدة يتبين للدارس ما تحمله من معان مختلفة
باختلاف كلِّ سياق ترد فيه.
-
عين الطفل تؤلمه : العين هنا هي الباصرة.
-
في الجبل عين جارية: العين هي عين الماء.
-
العين الساحرة وسيلة لمعرفة الطارق: العين تدلُّ على منظار حديث يركب في الباب.
- هذا عين للعدوّ : العين هنا
الجاسوس.
- ذاك الرجل عين من الأعيان: العين هنا
السيِّد في قومه
وكذلك كلمة "حسن" تقع في سياقات
لغوية متنوعة. فإذا وردت وصفاً لــ :
1- أشخاص:
رجل – امرأة – ولد. . ( دلَّت على الناحية
الخلقية ).
2- طبيب - معلم -
مهني . . ( دلَّت على التفوق في العمل والأداء الممتاز ) .
3- مقادير ومحسوسات: ملح
– دقيق – هواء – ماء . . ( دلَّت على الصفاء والنقاء والخلوِّ من الغش
النمط
الثاني: السياق العاطفي Emotional context:
هو
الذي يحدد طبيعة استعمال الكلمة بين دلالتها الموضوعية - التي تفيد العموم -،
ودلالتها العاطفية - التي تفيد الخصوص-، فيحدد درجة القوة والضعف في الانفعال، مما
يقتضي تأكيداً أو مبالغةً أو اعتدالاً. كما تكون طريقة الأداء الصوتية كافية لشحن
المفردات بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية.
ü
أمثلة على السياق العاطفي:
أولاً: من ناحية طبيعة استعمال الكلمة
في دلالتها الموضوعية العامة ودلالتها العاطفية الخاصة:
كلمتاجهاد
ونضال، كلمتان مترادفتان إلَّا أنهما تختلفان عند حدود استعمالهما لأن كلَّ مستعمل
له انتماء فكري ينحاز له فكرياً وعاطفياً؛ فكلمة ((جهاد)) يستخدمها الإسلامي بينما
كلمة ((نضال)) يستخدمها العلماني. وهكذا استخدام لفظتي استغلال واستثمار تبايناً،
فالأولى تحمل قيماً أسلوبية سلبية في حين الثانية إيجابية. بالرغم من أنهما
مترادفان،فالأولى تشير إلى أخذ غلة والثانية أخذ ثمرةً. وهكذا لفظة ((كلب)) وما تحمله من قيم عاطفية
متباينة. فعند الطفل هو لعبة، وعند المرأة التي تصلي هو نجس، وعند الفتاة هو الذي
يشكل الخوف من نباحه، وعند الصياد هو الفرح الأكبر بحفلة الصيد. وهكذا فمستخدم هذه
اللفظة يسبغ عليها من عاطفته، عندما ترد على لسانه، محملة بما تفيض به نفسه من
انفعالات.
ثانياً: من
ناحية درجة القوة والضعف في الانفعال:
السياق العاطفي هو الذي يحدد درجة
الانفعال قوةً وضعفاً، فالكلمات ذات الشحنة التعبيرية القوية ترد حين يكون الحديث
عن أمر فيه غضب وشدة انفعال. فالمتكلم، في حالة من الشعور الجامح، يغالي في
استخدام كلمات ذات شحنة عاطفية كبيرة. فالذين يتعاركون ((يتذابحون)) أو ((يقتلون))
بعضهم بعضاً. فهذه الكلمات لا يقصد معانيها الحقيقية.
ثالثاً: من ناحية طريقة الأداء الصوتي:
طريقة الأداء الصوتي لها دور فعال في شحن
المفردات بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية، كأن تُنْطَق الكلمة وكأنها
تمثل معناها تمثيلاً حقيقياً. ولا يخفى ما للإشارات المصاحبة للكلام في هذا الصدد
من أهمية في إبراز المعاني الانفعالية.
النمط الثالث: سياق الموقف:Situational
context
يدل هذا
السياق على العلاقات الزمانية والمكانية التي يجري فيها الكلام. وقد أشار اللغويون
العرب القدامى إلى هذا السياق، كما عبَّر عنه البلاغيون بمصطلح ((المقام)) وقد غدت
كلمتهم ((لكلِّ مقام مقال)) مثلاً
مشهوراً.
إن مراعاة المقام تجعل المتكلم يعدل
عن استعمال الكلمات التي تنطبق على الحالة التي يصادفها خوفاً أو تأدباً. بل قد
يضطر المتكلم إلى العدول عن الاستعمال الحقيقي للكلمات فيلجأ إلى التلميح دون
التصريح. وإن ما يؤديه المقام للمعنى من تحديد ومناسبة ظرفية، يتطلب الباحث
الإلمام بالمعطيات الاجتماعية التي يجري الكلام فيها.
ü أمثلة على
سياق الموقف:
إن أصدق أمثلة نستطيع أن نضربها في هذا الصدد
هذين المثلين:
الأول: ما ورد في قضية التحكيم المشهورة من قول الخوارج:
(( لا حكم إلا لله )) ، فكم كان هذا القول براقاً وجذاباً؛ ولكن كان رد الإمام علي
كرم الله وجهه حول هذه المقولة والشعار عكس الظاهر فكان قوله : (( كلمة حقٍّ يراد
بها باطل )) لقد أراد الإمام بذلك أنَّ هتاف الخوارج كلام ديني صحيح لكنَّ المقام
هو إلزام سياسي.
الثاني: ما ورد على لسان الأحنف بن
قيس حين سأل معاوية بن أبي سفيان عن رأيه في أخذ البيعة بولاية العهد ليزيد ولده
مع أنه لم يكن محمود السيرة في الناس، فقال الأحنف قولته الشهيرة: (( أخاف الله إن
كذبت، وأخافكم إن صدقت )) ، فكانت كنايته أبلغ من التصريح وأقدر على أداء المعنى
من التوضيح.
النمط الرابع: السياق الثقافي Cultural context:
ينفرد هذا
السياق بدور مستقل عن سياق الموقف الذي يقصد به عادة المقام من خلال المعطيات
الاجتماعية. لكنَّ هذا لا ينفي دخول السياق الثقافي ضمن معطيات المقام عموماً.
ويظهر السياق الثقافي في استعمال كلمات معينة في مستوى لغوي محدّد.
ü أمثلة على
السياق الثقافي:
أولاً: ظهور السياق الثقافي من ناحية
استعمال كلمات معينة في مستوى لغوي محدّد:
فالمثقف العربي المعاصر عندما يريد أن يعبر
بكلمة تدل على امرأته يقول : (( زوجة ))
أو (( مدام )) ، بينما نجد الرجل العادي البسيط يستخدم كلمة : (( مَرَه ))
، على حين يستخدم الرجل المتدين كلمة: (( حرمة )) و (( حريم )) . فالسياق الثقافي
له دور كبير في تحديد الدلالة المقصودة من الكلمة أو المفردة التي تستخدم
استخداماً عاماً.
ثانياً:
يحدّد السياق الثقافي الدلالة المقصودة من الكلمة التي تستخدم استخداماً عاماً:
فاستعمال كلمة "الصَّرف " لدى
دارسي العربية يعني مباشرة أنّ المقصود هو علم الصرف الذي تعرف به أحوال الكلمة
العربية من اشتقاق وتغيير وزيادة ونحو ذلك. على حين أنَّ دارسي الهندسة يحدِّدون
دلالة " الصَّرف " عندهم بأنها مصطلح آخر هو " الرِّي ". وهكذا يتحدّث دارسو العربية عن "الصَّرف "
بمراد قواعد بنية الكلمات. إذا استعملت كلمة " الصَّرف " في قطاع المال والتجارة،
فإنّ لها دلالة أخرى تشير إلى تحويل العملة النقدية.
ثالثاً:
ارتباط الكلمة بثقافة معينة لتكون علامة لانتماء عرقي أو ديني أو سياسي:
استخدام كلمة (( فتح )) للدلالة على حرب
وكسب الأرض، لا يساوق بحال من الأحوال استخدام كلمة (( احتلال )) أو(( غزو مسلح
))،لأنَّ كلمة (( فتح )) لها دلالة ثقافية تاريخية إيجابية. كما أنَّ استخدام كلمة
(( المجاهد )) لا يتطابق دائماً مع كلمة (( المناضل )) أو(( المقاتل ))
أو((الفدائي)) أو (( الإرهابي )) أو (( الانتحاري ))، لأنَّ لكلِّ كلمة من هذه
الكلمات ظلال ثقافية ذات ارتباط بالتاريخ أو الدين أو السياسة.
0 komentar:
Posting Komentar